خريجات جامعيات يرعين الاغنام ويبعن الخبز
يومياتي - تونس
قرب احد السدود بمحافظة "باجة" التونسية وبين التلال المترامية، انتشر قطيع من الأغنام يرعى ما نبت من عشب قصير بكل طمأنينة وهدوء.. مشهد جميل يعيد الى الناظر صورة الرعي التقليدية، وما غاب عن هذا المشهد الا صوت الناي والحانه الجميلة التي اعتاد الرعاة إطلاقها بين التلال.
غير بعيد عن القطيع جلست شابة في الثلاثينات من العمر الى جانبها عصاها، وبين يديها كتاب حول تاريخ الحركة الوطنية التونسية، تقلب صفحاته بكل نهم.. مشهد غير مألوف بين الرعاة في أرياف تونس الذين يجهل غالبيتهم الكتابة والقراءة، وأحسنهم يهوى قول الشعر والغناء التقليدي.
منذ 5 سنوات غادرت عائشة المهيري مدارج الجامعة، حاملة شهادة في التاريخ المعاصر، لتعود إلى مسقط رأسها في أرياف محافظة باجة بكل فخر واعتزاز. وقد بلغت الغاية التي تجند كل أفراد عائلتها، وضحّوا بالغالي والنفيس من اجل دعم ومساندة ابنتهم لنيل الشهادة التي ستفتح أمامها بواب الوظيفة لتنتشلهم من الفقر والحرمان.
غير انه سرعان ما اصطدمت أحلام عائشة بمصاعب عدة. وتاهت بين أروقة الإدارات والوزارات من دون أن تحظى بأي وظيفة تعيل من ورائها نفسها وعائلتها.
تقول عائشة انها لم تكن تتوقع ان تصطدم بكل هذه المصاعب من اجل الحصول على وظيفة في سلك التعليم.. "لم أتخيل انه عليّ خوض عشرات الاختبارات، ودفع الرشاوي، والبحث عن وساطات لنيل حقي في العمل.." وبعين دامعة تضيف: "من اين لأبي الضرير ولامي العجوز توفير المال لكي ادفع الرشاوي وأقدم الهدايا"
وبعد مسيرة طويلة بين الإدارات والمؤسسات والوزارات، قررت عائشة العودة الى قريتها منهزمة بعد ان طالت مدة استضافتها من قبل اقارب لها في العاصمة. تقول: "بعد عودتي الى القرية لم أفكر طويلا، واقتنعت انه ان الأوان لتوفير قوتي وقوت عائلتي مهما كلفنى الأمر، ولن ابقى في انتظار وظيفة حكومية. انا على قناعة تامة أنها لن تأتي في ظل الأوضاع التي تعيشها تونس.. اتصلت مباشرة بأحد كبار الفلاحين في المنطقة، وعرضت عليه رعي الأغنام لديه.. لن انسى أبدا نظرة التعجب التي رأيتها في عيني مؤجري حين سمع مطلبي، حيث كان يعلم أنني خريجة جامعية، وكان الكل يعرف ما قاساه ابي من اجل إكمال دراستي. إلا انه وامام إلحاحي وافق على توظيفي براتب لا يتجاوز 100 دولار".
شعور بالحزن يتضاعف - كما تقول - كلما رأت زملاء لها في نفس المعهد يعملون في مؤسسات عمومية أو شركات خاصة، بعضهم شيّد منزلا، وآخرون تحسّنت ظروفهم المادية وقرروا الزواج، أما هي فلا تزال تجري وراء الأغنام، تعيش حياة البدو برفقة نحو 200 رأسا من الغنم في الجبال، "مثلها مثل أي راعٍ آخر لم تطأ قدماه قط أبواب المدرسة".
قصة عائشة ليست الوحيدة او الأخيرة في تونس. فكل التقارير والدراسات تشير الى إقبال خريجي الجامعات في تونس على مهن بسيطة لم تكن تجد في السابق إقبالا منهم كرعي الأغنام والعمل في الحظائر والبناء وغيرها من المهن البسيطة.
فقد تناولت وسائل إعلامية تونسية في الفترة الأخيرة قصة أخرى بطلتها شابة تونسية في العقد الثالث من عمرها، حصلت على شهادة الماجستير في الحقوق، غير انها بعد سنوات طوال من البحث عن الوظيفة التي لم تأتي، رفضت البقاء في البيت ورفضت البطالة، وقررت النزول للعمل في بيع الخبز التقليدي على جانب الطريق الحزامي بمدينة القيروان وسط تونس حتى تحصل على قوت يومها وتساعد عائلتها.
هدى قالت انها تحترم كثيرا هذه المهنة وتعتبرها مشروع كأي مشروع وتضيف قائلة "اخترت هذه المهنة حتى لا أجد نفسي محتاجة".
تشير التقارير الحكومية في تونس الى ان الجامعات التونسية تخرّج سنويا أكثر من 50 ألفا من حاملي الشهادات العليا الى سوق العمل الذي شحت الوظائف فيه في السنوات الأخيرة، بسبب الأوضاع الاقتصادية الحرجة التي تعيشها تونس.
ولئن اختار البعض من خريجي الجامعات التونسية التخلي عن شهاداتهم واقتحام الوظائف البسيطة، فان البعض الآخر تعلقت همته بما وراء البحار، وركب البحر ليتسلل الى أوروبا بحثا عن الجنة الموعودة.