براري كينيا والمواجهة مع الأسود
سهول عذراء وبرارٍ لها بدايات لا تعرف أين تنتهي، نشعر ونحن نتجوّل فيها على متن الجيب الزيتيّ اللون، أننا نفتح بلاداً جديدة، أننا الكولومبس الأول في براري كينيا.
حين نصل البراري بطائرة صغيرة تقلّنا من العاصمة نيروبي، نكون قد خلعت عن كاهلنا كل كماليات المدن "الحضارية" ولم يعد يعنينا سوى الغوص أكثر للتعرّف على ثقافة شعب لا يزال يواجه يومياً شظف العيش والحيوانات المفترسة. فلا كهرباء ولا مياه، أما الأسرّة فعبارة عن طين.
في براري كينيا، مواجهة مع الذات ومع الغريزة الأساسية في الإنسان، وهي غريزة البقاء. الحاكم في البراري في تلك الدوائر هو شيخ العائلة، أي الأكبر سنّاً، إليه يعود القرار النهائي، في قرى تتناثر متباعدة جداً عن بعضها البعض، تسوّرها القرية عيدان وغصون وأشواك هي الحاجز بينها وبين الحيوانات المفترسة.
بعض هذه القرى صارت مقصداً للسياح، فرسمت فيها دائرة صغيرة محاطة بعيدان الشجر المشبوك بالحبال لتأليف ما يمكن تسميته بالسوق، حيث يعرض أهل القرية ما صنعته أيديهم من حلي اكتسبت قيمتها من الابتكارات الفنية التي جادت بها الايادي ومن الألوان الصاخبة التي تميز براري أفريقيا.
هجرة الحيوانات
حراس مخيمات البراري يقودوننا عند الحدود مع تنزانيا حيث هجرة الحيواناتK ومنها الوعل الذي له مساره الخاص الفصلي بين تنزانيا وكينيا في بحثه عن الكلأ، وفي مواسم هجرته تترصد له التماسيح في نهر مارا الذي يوصف بالنهر القاتل، حيث تتمكن التماسيح في العادة من صغار الوعل غير الخبراء بقطع النهر سريعاً والهرب من قبضة فكّ التمساح.
لا جشع عند الأسود
أما الأسود فنقترب منها هناك، فلا تتحرك إذا كانت بطونها ممتلئة، كل عائلة منها على حدة، وكذلك الفيلة التي تسير عائلات. أما الوعول والقردة فتضم أعداداً أكبر من عدد أفراد العائلة. وللغزلان سحر جمالها، خصوصاً إذا لم تجفل فنتمكن من رؤية عينيها تراقبنا ووبر صوفها بألوانه المتداخلة، وتركض إلى جانبها مجموعات من الحمار الوحشي الذي يشكّل جلده بالوبر الأبيض والأسود المخطّط بصمة خاصة لكل حمار وحشي، إذ لا تشبه خطوط حمار وحشي خطوط آخر، فعدّت كبصمة الإنسان المميزة.
سحر ما بعده سحر بين السماء والأرض، يقابله الخوف في اليوم الأول للإقامة في مخيم مجهّز ومريح على ضفاف نهر يسكنه فرس النهر. خوف من الدهس، ومن النصائح التي يزودنا بها حراس المخيمات والدليل السياحي، ينصحوننا بالابتعاد عن مسار فرس النهر إذا خرج من الماء بهدوء تام وأن لا نركض أمامه أبداً. أما مع الأسود، في الليل، فالأفضل البقاء في الخيم وعدم احداث ضجة ريثما تقرر عائلة الأسد الابتعاد عن المخيم، وقد يحصل أن نسمع كأن شجرة تقتلع في الليل، يكون قد طاب لأحد الفيلة تناول الطعام في المخيم.
الإنسان كتلة في الظلام
في الليل الخيمة كتلة في الظلام، تعتبرها الحيوانات صخرة فلا تهاجم ما دمنا لا نحدث جلبة. إنها لحظات يتوقف فيها تنفّسنا ونعجز عن التحرك. يكون الحارس قد أتى وأطفأ الأنوار في الخيم فلا نسمع إلا صوت الحشائش تحت خطوات الفيلة أو النمور أو الأسود.
يتهيّأ لنا أنها النهاية، لنصحو فجراً بكامل نشاطنا مستعدين لمغامرة جديدة في البراري، في رحلة بالمنطاد تواكب انبلاج الفجر، تقودنا إلى رؤية البراري والحيوانات المتنوعة من السماء.
في براري كينيا، يتعلّق المرء بالطبيعة على فطرتها، ويستريح بالمدى المفتوح للبراري وبالمواجهة مع الذات.
تحتاج كينيا إلى أكثر من زيارة للتعرف على كل سحرها، وعاصمتها نيروبي تمزج بشكل مدهش بين المشهد المدني والحياة البدائية. تتميّز فنادقها ببساطة البناء، فالفخامة للطبيعة فيها ولتمازجها مع بهو الفندق، حيث تتدلى أغصان الأشجار بثقل ثمار الفاكهة الاستوائية الشهية. وبعد نيروبي العاصمة، تحتل مومباسا مكانتها بشهرتها توازي شهرة العاصمة.
من المهمّ اصطحاب كاميرا محترفة معنا لزيارة كينيا، إذ قد نفوز بصورة مميزة لأسد الغابة أو تمساح النهر...