"سريرك هو الكرسي؟" في مجتمع غير حاضن
أن تكوني امرأة من ذوات الإعاقة هو بمثابة تحدٍّ يوميِّ في مجتمع غير متقبّل، إذ تتعرض النساء والفتيات ذوات الإعاقة -بحسب المنظمة العالمية لتمكين المرأة (WEI)- إلى العنف القائم على النوع الاجتماعي بما لا يقل عن ضعفين إلى ثلاثة أضعاف العنف الذي تتعرض له باقي النساء. ومن الواضح أنهن يتعرضن لأشكال مختلفة من التمييز نتيجة لإعاقتهن، ومن سوء المعاملة خلال فترة زمنية أطول، وعقبات أكثر تعقيداً تمنعهّن من تجاوز التعنيف والسعي للعدالة.
قد يأتي هذا العنف من الشريك الحميم أو أحد أفراد الأسرة، وكذلك من مقدمي الرعاية والخدمات الطبية، أو أرباب العمل وأصحاب السلطة وغيرهم. ويشمل هذا العنف منع الدواء أو الأجهزة المساعدة، وتقديم الرعاية دون المستوى المطلوب، والحرمان من الحقوق الأساسية بما فيها العزل القسري وتقييد وسائل الاتصال مع العالم الخارجي.
ليست قصّة فرانشيسكا عبدو سوى خير دليل على ما ذُكر. وُلدت وهي تعاني من مرض "سبينا بيفيدا"، تحديدًا شلل نصفي من أسفل الظهر، ما لم يخفيه أهلها عنها، بل أخبروها عنه منذ سنّ الخامسة، وهيّؤوها نفسيًا للعمليات التي ستخضع لها، على حدّ تعبيرها.
وهي تصف طفولتها بـ "المرحلة الأصعب من حياتها"، بعد أن خضعت لخمسة وخمسين عملية "ما كان قاسيًا بالنسبة إلى طفلة وطالبة مدرسة حينها". وتضيف:"هناك سنوات دراسية لم أداوم منها سوى شهرين".
لكنّ فرانشيسكا ترى أنّ الصعوبة الحقيقية تكمن في "تقبّل المدارس للحالة الصحية، ما جعلني أغيّر مدرستي ثلاث مرّات". وتخبر"في مدرستي الأولى وهي مدرسة العائلة المقدّسة، كان يتم وضعي على الكرسي العادي غير المتحرّك بمفردي ويتم إقفال باب الصف لمدّة ساعة ونصف، فلا حقّ لي في النزول إلى الملعب. والحجّة؟ عدم القدرة على تحمّل مسؤوليتي. فكنت أبكي لساعة ونصف ولا من يسأل عنّي خلالها".
وبعد أن غادرت المدرسة ظنًّا منها بتلقّي معاملة أفضل، تكرّر الأمر نفسه في مدرسة الحكمة أيضًا".
وبعد سنوات، "عندما أرادت أمّي نقلي إلى المعهد الأنطوني حيث يدرس أخوتي، تمّ رفضي عدّة مرّات. وعندما سألت أمّي عن السبب أجابتني أنّ الأب المسؤول يعتبر أنه بإمكاني التسبب بعقد نفسيّة للطلاب الآخرين". وهذا الكلام كان كفيلًا بجعل فرانشيسكا التي لم تنم في تلك الليلة، تطلب اللقاء مع الأبونا". ما لم يحصل، لكنّها تمكّنت من مقابلة رئيسة القسم التي "تحجّجت بالخوف على سلامة الطلاب الآخرين، لكنني نجحت في إقناعها".
ولكن لم تسلم الأخيرة من نظرة الشفقة وتعليقات زملائها: "أنتِ لا تجلسين على كرسي مثلنا، رجليك صغيرتين، ترتدين مقاسًا صغيرًا، أنتِ لا تستطيعين الركض مثلنا"، ولا أسئلتهم "الصادمة": "هل تستحمّين؟ هل سريرك هو الكرسي؟". في الوقت الذي "كنت ولا زلت أعتمد على نفسي، فأنا مستقلّة". وكردّة فعل على التنمّر، "كنت أضغط باليدتين على الكرسي وعندما أصل إلى المنزل، أبدأ بالبكاء".
كان لهذا التنمّر آثار نفسية عدّة، "العصبيّة، كبت المشاعر، البكاء الشديد، الكآبة لمدّة ستّ سنوات، أجبرتني على تقوية نفسي وتمكين شخصيتي من أجل الاستمرار".
وحتّى الرحلات المدرسية كانت فرانشيسكا مستثناة منها بعبارة كانت ترددها المديرة في كلّ مرّة "اعتبريه نهار عطلة واستريحي" وتكمل بحسرة "كنت أحبّ أن أتشارك مع أصدقائي اللحظات في الباص، وعندما يخبرونني ماذا فعلوا كنت أشعر بأنني ناقصة ولا أملك ذكريات كهذه".
أمّا القصّة التي لا تنساها فرانشيسكا هي "تركي في الملعب أثناء فصل الشتاء بانتظار الناظرة لتنهي عملها فقط لعدم تسليمي المفتاح، مع أنني عرضت عليها أن ترافقني صديقتي لكنّها اعتبرت أنّه لا يمكن تسليمي المفتاح". وتضيف "الحادثة الثانية مع المصعد هي عندما كنت أريد النزول إلى الملعب، ففتحت لي الباب المعلمة ولكن رئيسة القسم اعترضت طريقي وقالت لي أنّ الأولوية للأساتذة" على عكس ما يحصل في الدول المتقدّمة.
حتّى أنّ جدّتها لم تتقبّلها وطلبت من أمّها تركها في الدير، واستخفّت بحقّها في التعليم، على حدّ تعبيرها.
وقد واجهت نوعًا آخر من العنف، وهو التحرّش المعنوي وتحديدًا الإلكتروني، "هل تقبلين أن تكوني حبيبتي؟، أحببتك من النظرة الأولى، مستعدّ للاهتمام بك، أستطيع أن أحمل لك الكرسي"، معتبرين "أننا نحن كمرضاء بحاجة إلى عاطفة، ويحاولون الدخول من هذا الباب".
على الرغم من تقبلّها لحالتها وحبّها لذاتها، يبقى المجتمع غير مجهز لمثيلاتها، فلا إمكانية لدخولهنّ إلى المسابح ونادرًا ما يسلمن من النظرة الدونية في الأماكن العامة.
وتوجّه فرانشيسكا رسالة قائلةً: "أنا إنسان، فأنا أحدّد نفسي، وليس الكرسي الذي أجلس عليه. على الدولة أن تدمجنا، فنحن لسنا شخص وشخصين".
وفي هذا الإطار، تقول المتخصصة الاجتماعية والمشرفة التقنية في منظمة أبعاد رنا غنوي: "يوجد فرق بين حالة التنمّر الناتجة عن الإعاقة بحدّ ذاتها وعن ما يشتق منها من سلوكيات". وبرأيها "يكمن السبب في كون مجتمعنا غير متقبّل للاختلاف بشتّى أشكاله، بالتالي غير دامج ". أمّا عن الآثار التي يمكن أن يحدثها التنمّر على هؤلاء الأشخاص، فتعتبر غنوي أنّه: "يوجد أربعة دوائر أساسية وهي: الفرد، مقدمو الرعاية أي الأهل، البيئة المحيطة، والمجتمع". وتضيف: "لتقبّل الأهل وثقافتهم دور أساسي في عمليّة تقبّل الفرد لنفسه وكيفية تعاطيه مع حالات التنمّر، فيمكن أن نجد في بيئة غير حاضنة طفلًا قويًّا وآخر في البيئة نفسها يعيش صراعًا، كذلك تؤثر الأماكن العامّة التي يقصدها كالمدرسة على حالته النفسية ".
وقد يؤدّي التنمّر، بحسب غنوي، إلى الانتحارأو إيذاء الذات، "من الممكن أن يفكّر الطفل الناشط سلوكيًا أي فوق سنّ التاسعة في إنهاء حياته طنًّا منه أنّه سيعود، ففي هذا العمر تكون المخيّلة ناشطة والقدرة على التحرّك أكبر من السنوات السابقة". أمّا الطفل ما دون هذا السنّ، فيلجأ إلى الانطواء والعزلة، عدم التواصل والتفاعل، إنكار الذات، ومن الممكن أن تصل إلى اضطرابات سلوكية فوق سنّ السابعة".
وتشير غنوي إلى أنّه "في عمر البلوغ، يصبح التنمّر أكثر ارتباطًا بالجندر" وتعطي هذا المثل: "لا ترى المراهقة نفسها بالصورة نفسها التي كانت لديها في سنوات الطفولة، ما يجعلها تقارن نفسها بالأخريات القادرات على إقامة العلاقات العاطفية، فتتضعضع الصورة شيئًا فشيئًا، ما عدا آثار التنمّر من الآخرين". وتلفت إلى أنّه "هنا دور الأهل والاختصاصيين، ما يعزز الاكتفاء لديها ويبعد احتمال لجوئها إلى علاقة غير مرغوبة"، لذلك "من الممكن أن تكون عرضة للاستغلال بسبب ضعفها، أم لإثبات لنفسها لأنّها قادرة أن تعيش ما تعيشه صديقاتها".
وتختم غنوي قائلةً: "المشكلة تكمن في عدم دمج العديد من المشاريع لذوات الإعاقة، خصوصًا في ظلّ الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها لبنان، لا تلحظ الجهات الممولة ولا وزارة الشؤون الاجتماعية لهنّ، حتّى أنّنا لا زلنا نتحدّث عن عدم توفّر الحاجات الأساسية".
تبقى النطم الأبوية والسلطوية مجرّدة للنساء ذوات الإعاقة من الأهلية القانونية والحق في اتخاذ القرار وتشكّل مساحات مرحّبة بكافّة أشكال العنف المبني على النوع الاجتماعي تجاههنّ. ففوق الضعف، استضعاف، وبدل المساعدة، شفقة. إلى أن يتمّ إشراك هذه الفئة وشملها في القانون المطلوب إقرار لتجريم العنف المبني على النوع الاجتماعي، هل من يسأل؟
برلا الراعي
اقرئي أيضاً
الهيئة الوطنيّة لشؤون المرأة اللبنانيّة تطلق حملة عن مخاطر التحرّش الجنسي